فصل: (فرع: قارض على التجارة بجنس فلا يغيره)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[مسألة: فسخ القراض]

القراض من العقود الجائزة لكل واحد منهما أن يفسخه متى شاء؛ لأنه عقد يتضمن تصرف العامل في رقبة المال بإذن رب المال، فكان جائزا، كالوكالة.
إذا ثبت هذا: فقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يجوز القراض إلى مدة من المدد). قال أصحابنا: وفي ذلك مسائل:
إحداهن: أن يقول: قارضتك إلى سنة، فإذا مضت فلا تبع، ولا تشتر.. فيبطل القراض بهذا الشرط؛ لأن عقد القراض يجوز مطلقا، فبطل بالتوقيت، كالبيع والنكاح، ولأن القصد من القراض أن يتصرف العامل في المال للربح، وقد لا يحصل الربح إلا في البيع بعد السنة.
الثانية: أن يقول: قارضتك سنة على أني لا أمنعك فيها من البيع والشراء.. بطل القراض؛ لأن عقد القراض عقد جائر، فلا يجوز أن يشترط لزومه على رب المال.
الثالثة: إذا قال: قارضتك على هذا سنة، فإذا مضت منعتك من الشراء دون البيع.. فالمذهب أن القراض صحيح؛ لأنه يملك منعه من الشراء متى شاء، فإذا شرط ذلك.. فقد شرط ما يقتضيه العقد، فلم يؤثر.
وحكي عن أبي إسحاق المروزي: أنه قال: يفسد القراض؛ لأنه عقد عقدا، وشرط قطعه، فبطل، كما لو تزوج امرأة على أن يطلقها. وليس بشيء.
الرابعة: إذا قال: قارضتك سنة وأطلق. ففيه وجهان، حكاهما أبو علي السنجي:
أحدهما: لا يبطل؛ لأن له عزله بعد العقد متى شاء.
والثاني: يبطل، وهو الصحيح؛ لأن تقييده بالسنة يقتضي منعا بعده من البيع والشراء.

.[مسألة: قارضه وجعل غلامه معه وشرط الربح أثلاثا]

قال الشافعي رحمة الله عليه: (ولو قارضه فجعل معه رب المال غلامه، وشرط أن يكون الربح بينه وبين العامل والغلام أثلاثا.. فجائز).
قال أصحابنا: وفي ذلك مسألتان:
إحداهما: أن يقول: قارضتك على هذا على أن لك ثلث الربح، ولي ثلث الربح، ولعبدي ثلث الربح، ولم يشترط على عبده شيئا من العمل في المال.. فيصح ذلك وجها واحدا؛ لأن ما شرطه رب المال لعبده هو لرب المال، فكأنه شرط لنفسه ثلثي الربح وللعامل الثلث.
الثانية: أن يشترط لعبده شيئا من الربح، ويشترط أن يعمل العبد مع العامل فاختلف أصحابنا في هذا، فمنهم من قال: لا يصح؛ لأن عمل العبد كعمل سيده، فإذا لم يجز أن يشترط رب المال على نفسه شيئا من العمل.. فكذلك لا يجوز أن يشترطه على عبده، وحمل هذا القائل كلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على أنه أراد: إذا لم يشترط رب المال على عبده شيئا من العمل.
وقال أبو العباس، وأبو إسحاق، وأكثر أصحابنا: يجوز أن يشترط رب المال أن يعمل عبده مع العامل، ولا يبطل القراض بذلك، وهو ظاهر النص هاهنا وقد نص الشافعي رحمة الله عليه في (المساقاة) أيضا: (إذا ساقاه على نخل، وشرط رب المال أن يعمل غلامه مع العامل صح)، ولأن غلامه ماله، فجاز أن يجعل تابعا لماله بخلاف عمل رب المال بنفسه. قال أبو العباس: فعلى هذا: إذا دفع إليه مالا وحمارا، أو بغلا ليحمل عليه مال القراض، أو كيسا ليجعل فيه مال القراض.. جاز.

.[فرع: شرط أن يكون ربح المال لصاحبه وعامله وآخر]

وإن شرط رب المال لنفسه ثلث الربح، ولزوجته أو لغلامه الحر، أو الأجنبي ثلث الربح، وللعامل الثلث، فإن شرط رب المال على زوجته وغلامه الحر أو الأجنبي العمل مع العامل.. جاز، كما لو قارض اثنين. وإن لم يشرط عليهم العمل.. لم يصح؛ لأنه شرط الربح لغير نفسه وغير العامل، وإن قال: قارضتك على هذا، على أن لك نصف الربح، ولي نصف الربح، على أن يعطي هو غلامه أو زوجته من النصف الذي له نصفه.. جاز ذلك؛ لأنه شرط النصف لنفسه، ثم شرط على نفسه شرطا لم يلزمه، فصح، ولم يؤثر في العقد، كما قال الشافعي رحمة الله عليه في من تزوج امرأة وأصدقها ألفا، على أن يعطي هو أباها ألفا.. لا يصح؛ لأنه شرط صداقا لغير الزوجة، ولو أصدقها ألفين على أن تعطي هي أباها ألفا.. صح، وتكون المرأة بالخيار: بين أن تعطي أباها ألفا، أو لا تعطيه.
قال ابن الصباغ: وإن قال رب المال: قارضتك على أن لك ثلثي الربح، على أن تعطي امرأتك نصفه.. فقال القاضي أبو حامد: إن أوجب ذلك عليه.. كان ذلك قراضا فاسدا، وإن لم يوجب ذلك عليه.. صح، كما قال الشافعي رحمة الله عليه فيمن أصدق امرأته ألفين، على أن تعطي هي أباها ألفا: (أن الصداق صحيح، وتكون بالخيار: إن شاءت.. أعطت أباها، وإن شاءت.. لم تعطه).

.[مسألة: شرط المقارض على العامل البيع من رجل بعينه]

إذا قارضه وشرط عليه أن لا يبيع أو لا يشتري إلا من رجل بعينه.. فالمنصوص: (أن القراض لا يصح). وحكى القاضي أبو الطيب عن الماسرجسي: أنه قال: إذا كان الرجل بيعا تجلب إليه الأمتعة، ولا تنقطع عنه في العادة.. جاز أن يعينه ليبتاع منه. وليس بشيء؛ لأنه قد لا يبيع منه ذلك الرجل ولا يشتري منه إلا ما يكون فيه الربح، وقد يغيب عنه ذلك الرجل، أو يفلس، أو يموت، وذلك يمنع مقصود عقد القراض، فلم يصح.
وإن قارضه على أن لا يشتري إلا سلعة معينة، أو جنسا لا يعم وجوده في ذلك الوقت، كالصيد في موضع لا يوجد فيه غالبا.. لم يصح عقد القراض؛ لأن المقصود من القراض طلب الربح، وذلك لا يحصل إلا بأن يمكن العامل من التصرف التام.
قال الشيخ أبو حامد: والتصرف التام يحصل بأن يقول: قارضتك، فابتع ممن شئت، وبع ممن شئت، وابتع ما شئت، أو يقول: اتجر في الجنس الفلاني، وكان مما يعم وجوده في الشتاء والصيف، كالثياب، والطعام.
وقال الشيخ أبو إسحاق المروزي: وهكذا: إذا قارضه على أن يتجر في جنس يعم وجوده في بعض الأوقات دون بعض، كالرطب، والعنب.. فيصح ذلك؛ لأنه يعم وجوده في وقته، فتمكن التجارة فيه.
ومن أصحابنا من قال: لا يجوز إلا أن يقول: فإذا انقطع.. فاتجر فيما شئت، أو في جنس يعم وجوده في الشتاء والصيف، وليس بشيء.
فإن قيل: فقد قلتم لا يجوز أن يقارضه إلى مدة والقراض على ما ينقطع قراض إلى مدة؟
قلنا الفرق بينهما: أنه إذا قارضه إلى مدة.. فقد تنقطع المدة وبيده أعيان لا ربح فيها إلا ببيعها، فإذا منعه من بيعها.. تعذر المقصود، وليس كذلك إذا قارضه إلى مدة ما يوجد في وقت دون وقت؛ لأنه يتجر فيه ما دام موجودا، فيبيعه ويشتريه، فإذا انقطع ذلك.. انقطع ابتياعه، وأمكنه بيع ما في يده، فيحصل المقصود.

.[فرع: قارضه على شيء له غلة]

ولو قارضه على أن يشتري مستغلات يكون أصلها موقوفا، وغلتها بينهما، كالنخل، والدواب، والأرض.. لم يصح القراض؛ لأن عقد القراض موضوع على أن يتصرف العامل في رقبة المال، وهذا قد شرط منعه من ذلك، فلم يصح.

.[فرع: تخيير المقارض العامل بنصف المال لنوع خاص]

قال المزني: إذا دفع إليه ألف درهم، وقال: ابتع بها هرويا أو مرويا بالنصف كان فاسدا؛ لأنه لم يبين، ولا خلاف بين أصحابنا أن القراض فاسد، واختلفوا في تعليله:
فقال أكثرهم: إنما فسد؛ لأن القراض يقتضي أن يكون العامل مأذونا له في البيع والشراء، وهاهنا إنما أذن له في الابتياع دون البيع.
وقال أبو إسحاق: إنما فسد؛ لأن رب المال لم يبين أن النصف الذي من الربح للعامل، أو لنفسه.
وقال أبو العباس: لا يفسد بذلك؛ لأن الشرط إذا أطلق.. انصرف إلى العامل، وقد مضى ذكره، وإنما فسد.. للمعنى الأول.
ومنهم من قال: إنما فسد؛ لأن الهروي والمروي جنس لا يعم وجوده.
وقال أبو علي بن أبي هريرة: إنما فسد؛ لأنه لم يعين أحد الجنسين.
والأول أصح؛ لأن ما قاله أبو إسحاق قد مضى فساده، ومن قال: إن الهروي والمروي لا يعم وجوده.. غير صحيح؛ لأن الهروي والمروي لا يعدم وجوده في بلدة، وما قاله ابن أبي هريرة.. غير صحيح؛ لأنه يجوز أن يخيره فيما يشتريه.
إذا ثبت هذا فإن اشترى العامل وربح.. كان الشراء والربح لرب المال، وللعامل أجرة المثل؛ لأنه عمل ذلك بإذنه بعوض، ولم يسلم له.. فاستحق أجرة المثل.
وقال الطبري: وليس للعامل أن يبيعه؛ لأنه لم يؤذن له فيه.

.[فرع: إطلاق يد العامل لا يصح في محرم]

إذا قارضه، وقال له: اتجر فيما شئت.. لم يجز للعامل أن يشتري الخمر، سواء كان العامل مسلما أو ذميا.
وقال أبو حنيفة: (إذا كان العامل ذميا.. جاز له أن يشتري الخمر ويبيعها؛ لأنها مال عنده، ويشاركه رب المال في الربح وإن كان مسلما). وبنى ذلك على أصله: أن الملك يدخل في ملك الوكيل، ثم ينتقل إلى ملك الموكل.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله حرم الكلب، وحرم ثمنه، وحرم الخنزير، وحرم ثمنه، وحرم الخمر، وحرم ثمنه». فإذا اشترى الذمي الخمر، ونقد الثمن فيه.. فهل يضمنه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يضمنه؛ لأن رب المال فوض الاجتهاد إليه، وعنده: إن التجارة في الخمر ونقد الثمن فيه جائز، فلا يكون متعديا.
والثاني - وهو الصحيح -: أنه يكون ضامنا؛ لأنه لا يكون له نقد الثمن مع الحكم ببطلان البيع، فإذا فعل ذلك.. كان ضامنا.
وإن اشترى العامل أم ولد، ولم يعلم بها.. قال المسعودي [في (الإبانة) ق \ 322] فلا ضمان عليه؛ لأنه لا يعرف أم الولد.
وإن اشترى العامل المسلم خمرا لم يعلم به ونقد الثمن من مال القراض.. فهل يضمن؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في (الإبانة) ].
أحدهما: لا يضمن، كما لا يضمن ما صرفه في ثمن أم الولد.
والثاني: يضمن؛ لأنه كان يمكنه أن يذوقه، فإذا لم يفعل.. ضمنه.

.[فرع: قارض على التجارة بجنس فلا يغيره]

قد ذكرنا: أن رب المال يقول: قارضتك على أن تتجر فيما شئت، أو على أن تتجر في جنس كذا، وهو مما يعم وجوده، فإذا أذن له في جنس.. لم يجز له أن يتجر في غيره؛ لأن تصرفه مقصور على إذن رب المال.
فإذا قال له: اتجر في الثياب والبز.. فهل يجوز على الإطلاق؟ فيه وجهان، حكاهما الطبري في (العدة).
فإذا قلنا: يجوز.. دخل فيه ما يلبس من القطن والإبريسم والكتان والصوف، وهل يدخل فيه الثياب المخيطة؟ فيه وجهان، ذكرهما الطبري في (العدة)، ولا يدخل فيه القطن؛ لأنه لا يقع عليه اسم البز، وهل تدخل فيه الأكسية البرزكانية؟ فيه وجهان:
أحدهما: تدخل فيه؛ لأنها تلبس، فهي كالثياب.
والثاني: لا تدخل؛ لأنها لا تدخل في إطلاق اسم البز.
وإن قال: على أن تتجر في الرقيق.. فهل يجوز أن يشتري أشقاصا من الرقيق؟ فيه وجهان، حكاهما في (العدة). وإن قال: على أن تتجر في الطعام.. لم يدخل فيه الدقيق والشعير والذرة، لأن إطلاق اسم الطعام إنما ينصرف على الحنطة.

.[مسألة: ما يقوم به العامل في القراض]

ويتولى العامل من الأعمال في مال القراض ما جرت به العادة للعامل أن يتولاه منه، كالبيع والشراء، وطي الثياب ونشرها، وحمل ما خف من المتاع؛ لأن العادة جرت بأن يتولى ذلك الرفيع والوضيع، فإن استأجر لذلك.. كانت الأجرة من ماله، ولا يلزمه أن يتولى ما لم تجر العادة أن يتولاه العامل، كحمل الأمتعة الثقيلة، بل يستأجر لها من مال القراض من يتولاها، فإن عمل ذلك بنفسه.. فلا أجرة له بذلك؛ لأنه متبرع بذلك، وإن غصب المال أو سرق.. فهل يملك المخاصمة على ذلك؟ فيه وجهان:
أحدهما: ليس له ذلك؛ لأن عقد القراض يقتضي التجارة دون الخصومة.
والثاني: له ذلك؛ لأن عقد القراض يقتضي حفظ المال، وهذا من حفظ المال.

.[مسألة: مقارضة عامل القراض عاملا آخر]

إذا قارض العامل في القراض عاملا آخر.. نظرت:
فإن كان ذلك بإذن رب المال، ولم يشرط العامل الأول لنفسه شيئا من الربح، بل شرط الربح بين رب المال والعامل على ما أذن له فيه.. صح القراض، وكان العامل الأول وكيلا لرب المال في عقد القراض، وإن شرط العامل الأول لنفسه شيئا من الربح، بأن شرط أن ربح المال بينهم أثلاث.. لم يصح القراض؛ لأنه شرط الربح لغير رب المال، أو لغير العامل.
فعلى هذا: إذا عمل الثاني.. كان الربح كله لرب المال، وللعامل الثاني أجرة علمه.
وإن قارض العامل الأول عاملا آخر بغير إذن رب المال.. لم يصح القراض؛ لأن رب المال إنما رضي باجتهاد الأول دون اجتهاد غيره.
فعلى هذا: إذا تصرف العامل الثاني في المال.. رد المال إلى بيت المال ولا كلام، وإن حصل في المال ربح.. بنينا على من غصب شيئا، أو أودع شيئا، فتصرف فيه وربح، لمن يكون الربح؟ فيه قولان:
(الأول): قال في القديم: (يكون ذلك للمغصوب منه؛ لأنا لو جعلنا ذلك ملكا للغاصب.. كان ذلك ذريعة إلى غصب الأموال والتجارة فيها لتحصيل الأرباح، وأدى إلى خفر الأمانات والودائع، فجعل ذلك لرب المال؛ لحق المال، وليحسم الباب.
و(الثاني): قال في الجديد: (يكون الربح للغاصب). وهو الصحيح؛ لأنه إن
اشترى بعين مال الغاصب.. فالشراء باطل، فلا يتصور الربح، وإن اشترى بثمن في ذمته، ونقد المال المغصوب في الثمن.. فقد ملك السلعة، ولزمه الثمن في ذمته، فإذا نقد الثمن من المال المغصوب.. فقد تعدى بذلك، ولا تبرأ ذمته من الثمن، فإذا حصل ثمن السلعة.. فقد حصل ثمن ملكه.
واختلف أصحابنا في مأخذ هذين القولين:
فمنهم من قال: إنما ذكر الشافعي رحمة الله عليه هذا في القديم؛ لأنه كان يذهب في القديم إلى جواز البيع الموقوف. وهذه طريقة القفال والخراسانيين من أصحابنا.
وقال أبو العباس، وأبو إسحاق رحمهما الله، وأكثر أصحابنا: لا يعرف للشافعي جواز البيع الموقوف في قديم ولا جديد، وإنما ذهب إلى هذا في القديم للمصلحة، كما ذكرناه.
إذا ثبت هذا: فإن قلنا هاهنا بقوله القديم وأن الربح للمغصوب منه.. فإن لرب المال هاهنا نصف الربح إذا كان قد قارض الأول على نصف الربح، وأما النصف الثاني: فقال المزني: يكون بين العاملين نصفين، واختلف أصحابنا في ذلك على أربعة أوجه:
أحدها: أن الحكم فيها كما قال المزني، وأن العامل الثاني يأخذ ربع الربح، ولا شيء له غير ذلك؛ لأن الأول قارض الثاني على أن ما رزق الله من الربح.. بينهما، والذي رزقهما الله من الربح هو النصف، وأما النصف الآخر: فهو مستحق لرب المال.
والثاني: أن العامل الثاني يستحق ربع الربح، ويأخذ مع ربع الربح نصف أجرة مثله؛ لأنه دخل على أن يأخذ نصف ما رزق الله من ربح، والربح يقع على ما زاد على رأس المال، ولم يحصل له إلا نصف المشروط، فوجب أن يرجع بنصف أجرة مثله.
والثالث: وهو قول المسعودي [في (الإبانة): ق \ 223] إن قال الأول للثاني: قارضتك أو اعمل لي على أن لك نصف الربح.. استحق هاهنا مع ربع الربح نصف أجرة المثل، كما قال صاحب الوجه الثاني، وإن قال: قارضتك أو اعمل على ما رزق الله تعالى بيننا.. فله ربع الربح من غير شيء معه، كما قال صاحب الوجه الأول.
والرابع: وهو قول ابن الصباغ: أن نصف الربح لا يقسم بين العاملين، بل يكون للعامل الأول؛ لأن المضاربة فاسدة، والشرط لا يثبت مع الفاسد، فيرجع العامل الثاني على العامل الأول بجميع أجرة مثله؛ لأنه غره.
وأما إذا قلنا بالقول الجديد، وأن ربح المال المغصوب للغاصب، وكان العامل الثاني قد اشترى في الذمة، ونقد الثمن من مال القراض وربح.. فلمن يكون الربح؟ قال المزني: يكون الربح هاهنا للعامل الأول، وللعامل الثاني أجرة عمله، واختلف أصحابنا في ذلك:
فمنهم من خطأ المزني، وقال: يكون الربح هاهنا للعامل الثاني؛ لأنه هو المتصرف هاهنا، فكان الربح له كالغاصب.
ومنهم من وافق المزني، وقال: يكون الربح هاهنا للأول؛ لأن الثاني هاهنا تصرف للأول، فكان الربح له، ويجب للثاني أجرة مثله، بخلاف الغاصب له، فإنه تصرف لنفسه، وأما الضمان: فإن كان المال باقيا.. فللمالك أن يطالب برده من شاء منهما، وإن كان تالفا.. فله أن يطالب به من شاء من العاملين، فإن طالب الأول.. لم يرجع الأول على الثاني؛ لأنه دخل معه على الأمانة، وإن رجع به على الثاني.. فهل يرجع الثاني على الأول؟ فيه قولان.
(الأول): قال في القديم: (يرجع عليه)؛ لأنه غره.
و(الثاني): قال في الجديد: (لا يرجع عليه)؛ لأن التلف حصل بيده.

.[فرع: قارضه على أن نصف الربح للمال]

قال الطبري: فإن دفع العامل المال إلى رب المال، وقال: قارضتك على هذا المال على أن يكون لك نصف الربح الذي شرطته لي.. لم يصح، ويبطل به عقد القراض، خلافا لأبي حنيفة.

.[فرع: لا يشتري المقارض من مال القراض]

لا يجوز لرب المال أن يشتري من المال الذي في يد العامل للقراض؛ لأن المال له، فلا يجوز أن يشتري منه، كما لا يجوز أن يشتري من وكيله.
وإن كان لرجل غلامان في القراض مع كل واحد منهما مال منفرد به.. فهل يجوز لكل واحد منهما أن يشتري من الآخر؟ فيه وجهان، حكاهما الطبري في (العدة).
ويجوز للسيد أن يشتري من مكاتبه؛ لأنه معه كالأجنبي، وهل يجوز للسيد أن يشتري من عبده المأذون له؟ ينظر فيه:
فإن لم يكن على المأذون له دين.. لم يجز للسيد أن يشتري منه؛ لأن ما في يده ملكه.
وإن كان عليه دين معاملة.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: يصح؛ لأن حقوق الغرماء قد تعلقت بما في يد العبد، فصار كالمستحق لهم، فصار كما لو اشترى منهم.
والثاني: لا يصح؛ لأن تعلق حق الغرماء به لا يخرجه عن ملكه.

.[مسألة: شراء عامل القراض عبدا]

وإذا دفع إليه ألف درهم قراضا، فاشترى العامل عبدا بألف درهم للقراض صح، فإن اشترى عبدا آخر بألف للقراض.. لم يصح للقراض؛ لأن رأس المال ألف، وقد استحق تسلميه للأول، فإن اشترى الثاني بعين الألف.. لم يصح؛ لأنه اشترى بمال غيره ما لم يؤذن له فيه، وإن اشترى الثاني بألف في الذمة.. لزم الشراء للعامل، والثمن عليه؛ لأنه اشترى لغيره ما لم يأذن فيه، فلزمه.
قال المسعودي [في (الإبانة) ق \ 223] فإن أقبض الألف في البيع الثاني.. انفسخ البيع الأول إذا وقع الشراء الأول بعينها.
قلت: ويحتمل أنه أراد: إذا تلفت قبل أن يقبضها البائع الأول.

.[مسألة: إطلاق يد العامل والإذن له وعدمهما]

وإن دفع إلى رجل مالا قراضا.. فلا يخلو: إما أن يطلق رب المال الإذن، أو يقيده.
فإن أطلق.. لم يجز للعامل أن يبيع إلا بنقد البلد، ولا يبتاع إلا بنقد البلد، ولا يبيع إلى أجل، ولا يبتاع إلى أجل؛ لأنه يتصرف في مال غيره بغير إذنه، فاقتضى الإطلاق، وذلك كالوكيل، ولأن المقصود بالقراض طلب الربح فإذا باع أو ابتاع إلى أجل.. كان منافيا للمقصود، ولأنه إذا باع إلى أجل.. أخرج السلعة من يده، وربما لم يحصل له الثمن، فإذا ابتاع إلى أجل.. فإنه ابتاع بفضل.
قال الشيخ أبو حامد: فإن قال له: بع نقدا أو نسيئة، واشتر نقدا أو نسيئة.. جاز له أن يفعل ما شاء من ذلك؛ لأن رب المال قد أذن له في ذلك.
قال في (الأم): (فإن قال له: تصرف كيف شئت، وافعل ما ترى.. كان كالمطلق).
قال الطبري: وإن قال: قارضتك على أن لا تبيع إلا بالنسيئة.. فهل يبطل؟ فيه وجهان:
أحدهما: يصح، وهو قول أبي حنيفة؛ لأنه مأذون فيه.
والثاني: لا يصح؛ لأنه مقارضة على خلاف معهودها، وفيه خطر على المال، فإذا قلنا: يصح.. فهل يصح بيعه بالنقد؟ فيه وجهان:

.[فرع: صحة شراء المعيب للقراض]

وإن اشترى العامل شيئا معيبا.. صح شراؤه للقراض، ولو وكله بشراء سلعة معينة موصوفة.. لم يكن له أن يشتري سلعة معيبة، فإن اشتراها معيبة.. لم يصح، والفرق بينهما: أن القصد بالقراض طلب الربح، وقد يحصل الربح بطلب المعيب، والقصد في شراء السلعة الموصوفة الاقتناء، ولا يقتنى إلا السليم.
وإن اشترى العامل شيئا ظنه سليما، فبان أنه معيب.. فللعامل أن يفعل ما رأى فيه الحظ من الرد والإمساك؛ لأنه قائم مقام رب المال، وإن حضر رب المال والعامل، فإن اتفقا على الرد أو الإمساك.. فلا كلام وإن اختلفا، فدعا أحدها إلى الإمساك والآخر إلى الرد.. نظر الحاكم إلى ما فيه الحظ من ذلك، فقدم قول من دعا إليه؛ لأن المقصود طلب الربح، ولكل واحد منهما حق متعلق به، فقدم ما فيه المصلحة لهما.

.[مسألة: شراء من يعتق على رب المال بإذنه]

وإن اشترى العامل من يعتق على رب المال.. نظرت:
فإن كان بإذن رب المال.. صح الشراء، وعتق على رب المال، كما لو اشتراه بنفسه، فإن اشتراه بجميع مال القراض.. بطل القراض؛ لأنه اشتراه بإذن رب المال، وعتق عليه، فهو كما لو أتلفه رب المال، فإن لم يكن في المال ربح.. فلا شيء للعامل؛ لأن العامل في القراض صحيح لا يستحق شيئا إذا لم يكن في المال ربح، وإن كان في المال ربح.. رجع العامل على رب المال بقدر حصته من الربح؛ لأنه أتلف ذلك، فلزمه ضمانه، وإن اشتراه ببعض مال القراض، فإن كان الثمن مثل رأس المال.. انفسخ القراض في رأس المال، ويكون ما بقي من الربح بينهما، وإن كان أقل من رأس المال.. انفسخ العقد، ورد الثمن ويكون ما بقي من رأس المال على القراض والربح بينهما وإن كان الثمن أكثر من رأس المال انفسخ القراض في جميع رأس المال وبعض الربح ويقتسمان ما بقي من الربح، ثم يرجع العامل على رب المال بقدر حصته من الربح الذي حصل في ثمن العبد؛ لأنه تلف في حقه. هكذا ذكره الشيخ أبو حامد في (التعليق).
وذكر القاضي أبو الطيب في (المجرد): إذا كان الثمن جميع ما بيده، وكان بعضه ربحا، وقلنا: العامل حصته بالظهور، ولم يعلم العامل أن الذي اشتراه له يعتق على رب المال.. لم يعتق في قدر نصيبه، إلا أن يكون له مال آخر، فيقوم عليه.
وإن اشتراه العامل بغير إذن رب المال.. لم يصح الشراء في حق رب المال؛ لأن المقصود بالقراض شراء ما يربح فيه، وهذا لا يوجد في شراء من يعتق على رب المال. فإن اشترى بعين مال القراض.. لم يصح الشراء في حق العامل أيضا، وإن اشتراه بثمن في الذمة.. صح الشراء في حق العامل.